فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



عطف على جملة: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون} إلخ.
والمقصود من هذا الخبر هو قوله: {بما صبروا} تنويهًا بفضيلة الصبر وحسن عاقبته، وبذلك الاعتبار عطفت هذه الجملة على التي قبلها، وإلاّ فإن كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل تشمل إيراثهم الأرض التي بارك الله فيها، فتتنزل من جملة: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون} إلى آخرها منزلة التذييل الذي لا يعطف، فكان مقتضى العطف هو قوله: {بما صبروا}.
وكلمة: هي القول، وهو هنا يُحتمل أن يكون المراد به اللفظ الذي وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى في قوله: {عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض} [الأعراف: 129] أو على لسان إبراهيم وهي وعد تمليكهم الأرض المقدسة، فتمام الكلمة تحقق وعدها، شُبّه تحققها بالشيء إذا استوفى أجزاءه، ويحتمل أنها كلمة الله في علمه وقدَره وهي أرادة الله إطلاقهم من استعباد القبط وإرادته تمليكهم الأرض المقدسة كقوله: {وكلمته ألقاها إلى مريم} [النساء: 171].
وتمام الكلمة بهذا المعنى ظهور تعلقها التنجيزي في الخارج على نحو قول موسى {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} [المائدة: 21] وقد تقدم عند قوله تعالى: {وتمت كلمات ربك صدقًا وعدلًا} في سورة الأنعام (115).
و{الحسنى}: صفة ل {كلمة} وهي صفة تشريف كما يقال: الأسماء الحسنى، أي كلمة ربك المنزهة عن الخُلف، ويحتمل أن يكون المراد حسنَها لبني إسرائيل، وإن كانت سيئة على فرعون وقومه، لأن العدل حسَن وإن كان فيه إضرار بالمحكوم عليه.
والخطاب في قوله: {ربك} للنبيء صلى الله عليه وسلم أدمح في ذكر القصة إشارة إلى أن الذي حقق نصر موسى وأمته على عدوهم هو ربك فسينصرك وأمتك على عدوكم؛ لأنه ذلك الرب الذي نصر المؤمنين السابقين، وتلك سنتُه وصنعه، وليس في الخطاب التفات من الغيبة إلى الخطاب لاختلاف المراد من الضمائر.
وعدي فعل التمام بعلى للإشارة إلى تضمين {تمت} معنى الإنعام، أو معنى حقت.
وباء {بما صبروا} للسببية، وما مصدرية أي بصبرهم على الأذى في ذات الإله وفي ذلك تنبيه على فائدة الصبر وأن الصابر صائر إلى النصر وتحقيق الأمل.
والتدمير: التخريب الشديد وهو مصدر دمّر الشيء إذا جعله دامرًا للتعدية متصرف من الدمار بفتح الدال وهو مصدر قاصر، يقال دَمَر القومُ بفتح الميم يدمُرون بضم الميم دَمارا، إذا هلكوا جميعًا، فهم دامرون.
والظاهر أن إطلاق التدمير على إهلاك المصنوع مجازي علاقته الإطلاق لأن الظاهر أن التدمير حقيقته إهلاك الإنسان.
و{ما كان يصنع فرعون}: ما شاده من المصانع، وإسناد الصنع إليه مجاز عقلي لأنه الآمر بالصنع، وأما إسناده إلى قوم فرعون فهو على الحقيقة العقلية بالنسبة إلى القوم لا بالنسبة إلى كل فرد على وجه التغليب.
و{يَعْرشون} ينشئون من الجنات ذات العرايش.
والعريش: ما يُرفع من دوالي الكروم، ويطلق أيضًا على النخلات العديدة تربّى في أصل واحد، ولعل جنات القبط كانت كذلك كما تشهد به بعض الصور المرسومة على هياكلهم نقشًا ودهنًا، وقد تقدم في قوله تعالى: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات} في سورة الأنعام (141) وفعله عَرَش من بابي ضرَب ونصَرَ وبالأول قرأ الجمهور، وقرأ بالثاني ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وذلك أن الله خرب ديار فرعون وقومه المذكورين، ودمر جناتهم بما ظلموا بالإهمال، أو بالزلزال، أو على أيديهم جيوش أعدائهم الذين ملكوا مصر بعدهم، ويجوز أن يكون {يعرشون} بمعنى يرفعون أي يشيدون من البناء مثل مباني الأهرام والهياكل وهو المناسب لفعل {دمرنا}، شبه البناء المرفوع بالعرش.
ويجوز أن يكون يعرشون استعارة لقوة الملك والدولة ويكون دمرنا ترشيحًا للاستعارة.
وفعل {كان} في الصلتين دال على أن ذلك دأبُه وهجيرَاه، أي ما عني به من الصنائع والجنات.
وصيغة المضارع في الخبرين عن كان للدلالة على التجدد والتكرر. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} أي صارت مصر والشام تحت إمرة بني إسرائيل، وهي الأرض التي باركها الله، بالخصب، وبالنماء، بالزروع، بالثمار، بالحيوانات، وبكل شيء من مقومات الحياة، وترف الحياة: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ}.
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} أي استمرت عليهم الكلمة وتم وعد الله الصادق بالتمكين لبني إسرائيل في الأرض ونصره إياهم على عدوهم، واكتملت النعمة؛ لأن الله أهلك عدوهم وأورثهم الأرض، وتحققت كلمته سبحانه التي جاءت على لسان موسى: {... وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129].
هكذا تمت كلمة الله بقوله سبحانه: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: 137].
ونعلم أن كلمة {مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} تقال بالنسبيات؛ فليس هناك مكان اسمه مشرق وآخر اسمه مغرب، لكن هذه اتجاهات نسبية؛ فيقال هذا مشرق بالنسبة لمكان ما، وكذلك يقال له مغرب بالنسبة لمكان آخر. وحين ينتقل الإِنسان إلى مكان آخر يوجد مشرق آخر ومغرب آخر. وعلى سبيل المثال نجد من يسكن في الهند واليابان يعلمون أن منطقة الشرق الأوسط بالنسبة لهم مغرب، ومن يسكنون أوروبا يعرفون أن الشرق الأوسط بالنسبة لهم مشرق.
وقلنا من قبل: إن الحق حين جاء بالمشرق والمغرب بصيغة الجمع كما هنا فذلك إنما يدل على أن لكل مكان مشرقًا، ولكل مكان مغربًا؛ فإذا غربت الشمس في مكان فهي تشرق في مكان آخر. وفي رمضان نجد الشمس تغرب في القاهرة قبل الإسكندرية بدقائق.
ونعلم أن سبب هذه الدورة إنما هو ليبقى ذكر الله بكل مطلوبات الله في كل أوقات الله، مثال ذلك حين نصلى نحن صلاة الفجر نجد أناسًا يصلون في اللحظة نفسها صلاة الظهر، ونجد آخرين يصلون صلاة العصر، وقومًا غيرهم يصلون صلاة المغرب، وغيرهم يصلي صلاة العشاء. وبذلك تحقق إرادة الله في أن هناك عبادة في كل وقت وفي كل لحظة، فحين يؤذن مسلم قائلًا الله أكبر لينادي لصلاة الفجر، هناك مسلم آخر يقول: الله أكبر مناديًّا لصلاة الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء، وهذا هو الاختلاف في المطالع أراد به سبحانه أن يظل اسمه مذكورًا على كل لسان في كل مكان لتعلو الله أكبر، الله أكبر في كل مكان.
وأنت إذا حسبت الزمن بأقل من الثانية تجد أن كون الله لا يخلو من لا إله إلا الله أبدًا: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى}. ونعلم أن كلمة {الحسنى} وصف للمؤنث، و{كلمة} مؤنثة، والكلمة هي قوله الحق: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين} [القصص: 5].
لقد قال الحق القصة بإيجاز، وهذه هي التي قالها ربنا وهي كلمة {الحسنى} لأنه سبحانه لم يعط لهم نعمة معاصرة لنعمة العدو، بل نعمة على أنقاض العدو، فهي نعمة تضم إهلاك عدوهم، ثم أعطاهم بعد ذلك أن جعلهم أئمة وهداة وورثهم الأرض: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ}.
وهم بالفعل قد صبروا على الإِيذاء الذي نالوه وذكره سبحانه من قبل حين قال: {يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ...} [البقرة: 49].
وجاء عقاب الله لقوم فرعون: {... وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137].
والتدمير هو أن تدرك شيئًا وتخربه، وقد ظل ما فعله الله بقوم فرعون باقيًّا في الآثار التي تدلك على عظمة ما فعلوا، وتجد العلماء في كل يوم يكتشفون تحت الأرض آثارًا كثيرة. ومن العجيب أن كل كشوف الآثار تكون تحت الأرض، ولا يوجد كشف أثري جاء من فوق الأرض أبدًا.
وكلمة {دمرنا} تدل على أن الأشياء المدمرة كانت عالية الارتفاع ثم جاءت عوامل التعرية لتغطيها، ويبقى الله شواهد منها لتعطينا نوع ما عمّروا؛ كالأهرام مثلًا. وكل يوم نكتشف آثارًا جديدة موجودة تحت الأرض مثلما اكتشفنا مدينة طيبة في وادي الملوك، وكانت مغطاة بالتراب بفعل عوامل التعرية التي تنقل الرمال من مكان إلى مكان. وأنت إن غبت عن بيتك شهرًا ومع أنك تغلق الأبواب والشبابيك قبل السفر؛ ثم تعود فتجد التراب يغطي جميع المنزل والأثاث؛ كل ذلك بفعل عوامل التعرية التي تنفذ من أدق الفتحات، ولذلك لو نظرت إلى القرى القديمة قبل أن تنشأ عمليات الرصف التي تثبت الأرض نجد طرقات القرية التي تقود إلى البيوت ترتفع مع الزمن شيئًا فشيئًا وكل بيت تنزل به قليلًا، وكل فترة يردمون أرضية البيوت لتعلو، وكل ذلك من عوامل التعرية التي تزيد من ارتفاع أرضية الشوارع. وكل آثار الدنيا لا تكتشف إلا بالتنقيب، إذن فكلمة {دمرنا} لها سند. والحق يقول عن أبنية فرعون: {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} [الفجر: 10].
ونجد الهرم مثلًا كشاهد على قوة البناء، وإلى الآن لم يكتشف أحد كيف تم بناء الهرم. وكيف تتماسك صخوره دون مادة كالأسمنت مثلًا، بل يقال: إن بناء الهرم قد تم بأسلوب تفريغ الهواء، ولا أحد يعرف كيف نقل المصريون الصخرة التي على قمة الهرم. إذن فقد كانوا على علم واسع. وإذا ما نظرنا إلى هذا العلم عمارة وآثارًا وتحنيطًا لجثث القدماء، إذا نظرت إلى كل هذا وعلمت أن القائمين به كانوا من الكهنة المنسوبين للدين، لتأكدنا أن أسرار هذه المسائل كلها كانت عند رجال الدين، وأصل الدين من السماء، وإن كان قد حُرِّف. وهذا يؤكد لنا أن الحق هو الذي هدى الناس من أول الخلق إلى واسع العلم. {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137].
و{يعرشون} أي يقيمون جنات معروشات، وقلنا من قبل: إن الزروع مرة تكون على سطح الأرض وليس لها ساق ومرة يكون لها ساق، وثالثة يكون لها ساق لينة فيصنعون له عريشة أو كما نسميه نحن التكعيبة لتحمله وتحمل ثمرهُ. اهـ.

.قال البيضاوي في الآيات السابقة:

{وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ في الأرض} بتغيير الناس عليك ودعوتهم إلى مخالفتك. {وَيَذَرَكَ} عطف على يفسدوا، أو جواب الاستفهام بالواو كقول الحطيئة:
أَلَمْ أَكُ جَارَكُم وَيَكُونُ بَيْني ** وَبَيْنَكُمْ المَوَدَّةُ وَالإِخَاءُ

على معنى أيكون منك ترك موسى ويكون منه تركه إياك. وقرئ بالرفع على أنه عطف على {أتذر} أو استئناف أو حال. وقرئ بالسكون كأنه قيل: يفسدوا ويذرك كقوله تعالى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} {وَءالِهَتَكَ} معبوداتك قيل كان يعبد الكواكب. وقيل صنع لقومه أصنامًا وأمرهم أن يعبدوها تقربًا إليه ولذلك قال: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} وقرئ {إلاهتك} أي عبادتك. {قَالَ} فرعون {سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ} كما كنا نفعل من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده. وقرأ ابن كثير ونافع {سنقتل} بالتخفيف. {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون} غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا.
{قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله واصبروا} لما سمعوا قول فرعون وتضجروا منه تسكينًا لهم. {إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} تسلية لهم وتقرير للأمر بالاستعانة بالله والتثبت في الأمر. {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} وعد لهم بالنصرة وتذكير لما وعدهم من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وتحقيق له. وقرئ و{العاقبة} بالنصب عطف على اسم إن واللام في {الأرض} تحتمل العهد والجنس.
{قَالُواْ} أي بنو إسرائيل. {أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا} بالرسالة بقتل الأبناء {وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} بإعادته. {قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ في الأرض} تصريحًا لما كنى عنه أولًا لما رأى أنهم لم يتسلوا بذلك، ولعله أتى بفعل الطمع لعدم جزمه بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم. وقد روي أن مصر إنما فتح لهم في زمن داود عليه السلام. {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فيرى ما تعملون من شكر وكفران وطاعة وعصيان فيجازيكم على حسب ما يوجد منكم.